الصيام تربية روحية واجتماعية

الصيام تربية روحية واجتماعية

الخطبة الأولى:

الحمد لله جعل الصيام جنة من العذاب، وفضله على سائر الأعمال فهو يجزي به من غير حساب، وخص فيه أمة محمد صلى الله عليه وسلم بمزيد من الأجر والثواب ومنحهم فيه مالا يحصى من الخير ودعاء مستجاب، ووعدهم شمول الرضا وعتق الرقاب،أحمده جل وعلا حمد من إليه أناب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كافلة بحسن المآب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المخصوص بجوامع الكلم وفصل الخطاب، الذي من الله على المؤمنين يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب،اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه خير آل وأصحاب.أما بعد؛

فإن من أجل الأعمال وأسماها التي فرضها المولى عز وجل فريضة الصيام، أجل أركان الإسلام، وأقوى دعائم الإيمان؛ فهو من القُرب الرفيعة، والآداب الفاضلة النبيلة، الخالية من الرياء، البريئة من الزهو والخيلاء، فكل عمل يظهر للناس عيانا إلا الصيام لا يعلم به إلا رب الأرض والسموات، يعيش به الإنسان بينه وبين ربه، بين نفسه وإيمانه، حتى لو كان العبد  في أشـد العطش وغايـة الحـر، لا يمنعـه من الفطـر إلا التقـوى والخـوف من البـاري جـل وعـلا، قال تعالى في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام  فإنه لي وأنا أجزي به" رواه البخاري ومسلم .

فالصوم يهذب النفوس، ويكفها عن الشهوات، ويمنعها من البطر، ويصدها عن الطغيان، ويبصرها بحقيقتها وضعفها وحاجتها إلى الطعام الذي هو من نعم الله عليها فتذل لخالقها وتتضاءل أمام عظمته سبحانه وتعالى.

قال تعالى: ﴿يأيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾ البقرة183

ففي الصيام تحقيق للتقوى، وامتثال لأمر الله، وقهر  للهوى، وتقوية للإرادة، وحملها على التصبر والجلد، وتهيئة المسلم لمواقف التضحية والفداء من أجل هذا الدين، وتذكير له بالآخرة وما فيها من العطش والأهوال والمحن، كما تتحقق به الوحدة والمحبة والنصرة على الشيطان، فكل الناس صائمون، فتسهل العبادة، وتنشط النفوس، وتقوى الهمم للذكر والقيام، ويشعر الصائم بجوع الجائعين وألم المحتاجين، فالصيام دافع للتقوى، حاث على الجود والبذل والمواساة، فهو حقا معين الأخلاق وروافد الرحمة، من صام حقا شفت روحه، ورق قلبه، وصلحت نفسه، ولانت عريكته؛ قال النبي-صلى الله عليه وسلم-:

"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".

وقال ابن رجب:

إذا لــم يكـــن في السمــــــع مـــــني تصــــاون    ***     وبصـــــري غـــض وفي منطقــــــي صمـــــت

فحضي إذن من صومي الجوع والظمأ     ***     فإن قلت إني صمت يوما فما صمت

قال أحمد شوقي: ((الصوم حرمان مشروع، وتأديب مشروع، وخشوع لله وخضوع، يستثير الشفقة، ويحرض على الصدقة، ويكسر الكبر، ويعلم الصبر، حتى جاع من أَلِف الشبع، وحُرم المترف أسباب المتع، عرف الحرمان كيف يقع، وألَمَ الجوع إذا لدغ" وجاء في الأثر أنه قيل ليوسف عليه السلام: لم تجع وأنت على خزائن الأرض؟! قال:" أخاف أن أشبع فأنسى الجائع"، ومن هنا شرعت زكاة الفطر تطبيقا عمليا للتراحم والتعاطف الذي اكتسبه الصائمون من شعيرة الصيام، وجاءت كفارة قتل الخطأ والظهار واليمين ومن جامع انتهك حرمة رمضان وكفارات الحج كلها فيها الصيام لأنه علاج النفوس من مفاسدها وزيغها وأدرانها وصيانة لها من الظلم والطغيان التي تقع فيه، وقد دعا الرسول -صلى الله عليه وسلم- الشباب العاجزين عن مؤنة النكاح إلى الصيام فقال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج فمن لم يستطع فعليه بالصيام فإنه له وجاء"رواه البخاري، خشي عليهم النبي الكريم عليه الصلاة والسلام الوقوع في الفاحشة، فنصحهم بالصوم؛ لأنه يكسر الشهوة، ويقمع الشيطان، ويسد طرقه وأبوابه، ويضيق مجاريه؛ قال عليه الصلاة والسلام: "إن الشيطان يجري من ابن ادم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع" متفق عليه.

معاشر المسلمين: إن الصيام ليس معناه الكف عن الطعام والشراب والجماع فقط، وإنما يكون مع ذلك بحفظ اللسان عن الهذيان والكذب، والغيبة والنميمة، والفحش والخصومة، والجفاء والمراء، وانشغاله بذكر الله، وقراءة القرآن؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام : "إنما الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل وان امرئ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم" أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وعن عبيد مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله فأجهدهما الجوع والعطش آخر النهار فبعثتا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تستأذناه في الإفطار فأرسل إليهما قدحا وقال لهما قيئا فيه ما أكلتما فقاءت إحداهما نصفه دما عبيطا ولحما غليطا وقاءت الأخرى مثل ذلك حتى ملأتاه فعجب الناس من ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: "هاتان صامتا عما أحل الله وأفطرتا على ما حرم الله قعدت إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تغتابان الناس فهذا ما أكلتما من لحومهم" رواه أحمد.

كذلك الصيام يكون بحفظ البصر عن الاتساع في النظر إلى المحرمات وعما يلهي عن ذكر الله جل وعلا قال تعالى: ((و لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم، ورزق ربك خير وأبقى)) [طه: 131].

وقال النبي-صلى الله عليه وسلم- : "النظرة سهم من سهام إبليس فمن  تركها خوفا من الله أتاه الله حلاوة يجدها في قلبه" أخرجه الحاكم .

أما حفظ السمع يكون بكفه عن الاستماع إلى كل قبيح ومكروه من الكلام قال تعالى يصف اليهود لعنهم الله: "سماعون للكذب أكاّلون للسحت" [المائدة: 42].

فمن سمع إلى ذلك ورضي ولم ينصرف ولم ينه كان هو والقائل شريكان في الإثم قال تعالى: :"وقد نُزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُستهزئ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا" [النساء: 140].

أما صيام البطن يكون بكفه عن الحرام وقت الإفطار، فكيف يصوم العبد طول النهار عن الحلال ويفطر آخر النهار على الحرام؟!فحاله كمن يبني قصرا  ويهدم مصرا، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-"رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش" أخرجه النسائي.

وقال الإمام أبو حامد الغزالي: "صيام الصالحين ثلاث درجات صيام العموم، وصيام الخصوص، وصيام خصوص الخصوص، أما صيام العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وهذا يشترك فيه كل الناس، وصيام الخصوص فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن سائر الآثام، وهذا لا يتحقق إلا لمن وفقه الله للخير، وصوم  خصوص الخصوص فهو صوم القلب عن الهمم الدنيئة، والأفكار الدنيوية، وكف عما سوى الله عز وجل بالكلية، وهذا لا يكاد يكون في هذا الزمان".

عباد الله: فإن من آداب الصيام وكماله أن لا يستكثر العبد من النوم  نهار رمضان، حتى يحس بالجوع والعطش، ويستشعر ضعف القوى، فيصفو عند ذلك قلبه، ويستديم ذلك كل يوم من رمضان حتى يحقق ما شرع له الصيام من مقاصد، وينال ما جعل فيه من الأجر، فكثير من الناس ينام طول النهار، ويسهر الليل كله، فهذا قلب الليل بالنهار والنهار بالليل، مع سهره على الأفلام والمسلسلات الساقطة، والأغاني الماجنة، وبعضهم في المقاهي على اللهو واللعب، وبعضهم يسهر على الخمور والقمار، فضيعوا ما جنوا من حسنات في النهار، بل زادوا عليها من السيئات أضعافا وأضعافا، فاستوى عندهم شهر الصيام وغيره من الشهور، ولم يفهموا حقيقة الصيام، وغابت عنهم فوائده وأسراره، فأي صيام لهؤلاء؟ وأي صيام لمن أطلق بصره على النساء والأفلام الماجنة الخبيثة؟ وأي صيام لمن يفطر على الحرام شهر رمضان وبقية العمر؟ وأي صيام لمن يسب الناس ويخاصمهم على أتفه الأسباب؟ قال بعض العلماء : "كم من صائم مفطر، وكم من مفطر صائم" فالمفطر الصائم من حفظ جوارحه عن الآثام، وأكل وشرب، والصائم المفطر من يجوع ويعطش ويطلق جوارحه على الحرام، ومن فهم معاني الصوم تبين له الفرق .

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم فاستغفروه تجدوه غفورا.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، وجعل أمتنا خير أمة، أحمده جل وعلا على نعمه الجمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تكون لمن اعتصم بها خير عصمة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بعثه ربنا منا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة .

أما بعد: فإن الصيام مدرسة فريدة يتربى فيها الفرد والمجتمع  على شرع الله وهدي نبينا –صلى اله عليه وسلم-، ومازال الصيام يغرس في المؤمنين معاني الإيمان وصفات الكمال التي يواجهون بها تحديات زمنهم وأزمات عصرهم، فقد كان السلف - رحمهم الله- يحققون أعظم الانتصارات، وأهم الإنجازات في شهر الصيام، فالصيام عبادة القوة والصبر، عبادة المراقبة والمجاهدة، عبادة التوبة والتقوى، وأعظم مافيه؛ أنه  شهر الجود والمواساة، يتراحم الخلائق فيما بينهم، ويواسي بعضهم بعضا، فأينما توجهت إلى بلد من بلدان المسلمين، أو بقعة يصوم الناس فيها، ترى كثرة المتصدقين، وموائد الإفطار، ومطاعم الرحمة، حتى المسلمين الذين لا يصلون، يتصدقون في رمضان، وهذا مقصد عظيم من مقاصد الصيام، وقـــــــد كان النبي-صلى الله عليه وسلم-أجود الناس، وأجود ما يكون  في رمضان حين يلقاه جبريل  فيدارسه القرآن، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة،  وكان لا يُسأل عن شيء إلا أعطاه، وهكذا أتباعه، الذين ورثوا هذه الصفة الحميدة منه، قال الإمام الشافعي رحمه الله- : ((أحب للرجل الزيادة في الجود  في رمضان اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولحاجة الناس إلى الطعام، وانشغال أكثر الناس بالصوم والصلاة عن مكاسبهم، حتى قال النبي-صلى الله عليه وسلم- :{من فطر صائما كان له من أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء}رواه الترميذي و النسائي وابن ماجة.

وبهذا يظهر  فضل المسلمين على الكفار الذين لا يؤمنون إلا بالماديات، إذا جاع فيهم إنسان هلك ولم يكترث له أحد، ومن افتقر غرق في بؤسه، ملة تتغلب عليها الأنانية والخوف من الفقر تنظر بعين واحدة، هي عين الشهوة، الغني فيهم ملك مُطاع، والفقير عبد رخيص ليس له وزن ولا كلام، كأنه سلعة تباع وتشترى.

عباد الله: ختاما مع هذه الفوائد العظيمة الروحية والاجتماعية للفرد والأمة، لا ننس فوائد الصيام  الصحية فهو مذهب لكثير من الأمراض النفسية والجسمية، ويصلح الجهاز الهضمي والكلى والكبد وبعض الغدد  المنتشرة في الجسم، ويقيه من الأمراض الخطيرة كارتفاع ضغط الدم والبول و السكري، ويخفف حدة التهاب المفاصل، ويريح أنسجة الدم، ويطهر الأمعاء من العفونات والسموم التي تحدثها البطنة، ويذيب الشحومات التي هي خطر على القلب، ومع ذلك لا ينصح العبد بكثرة الصيام حتى لا يهزل جسمه وتضعف قوته، وقد نهى النبي-صلى الله عليه وسلم- عن صيام الدهر ورأى رجلا ضعف جسمه وتغير لونه من ديمومة الصيام فقال: "من أمرك أن تعذب نفسك؟صم شهر الصبر رمضان وثلاثة أيام من كل شهر" رواه أحمد وأبوداود.

الدعاء.........................................................................................................................................................................

من إعــــــــــداد :مـــــــــــراد غوايزي

مديرية الشؤون الدينية والأوقاف- باتنة